أحد الظواهر المتكررة والغريبة في عالم
الأعمال هي ظاهرة التعامل غير الفعال للشركات الناجحة مع المتغيرات التي تحدث في
بيئتها، هذه الشركات تصبح ضعيفة ولا تستطيع الصمود أمام المنافسين المتسلحين
بمنتجات وتقنيات واستراتيجيات جديدة وحديثة، وتكتفي هذه الشركات بمشاهدة مبيعاتها
وأرباحها تتناقص، وأفضل موظفيها يرحلون، وقيمتها السوقية تتهاوى. البعض ينجح
بالتعافي باستخدام بعض الحلول كإعادة الهيكلة أو تقليل عدد الموظفين، لكن الأغلب
لا ينجح.
يظن البعض أن سبب فشل الشركات الناجحة يعود
لشلل تصاب به عندما تواجه تغييرا في بيئة عملها فتتجمد في مكانها كغزال تحت الأضواء،
لكن دراسة ما قامت به هذه الشركات يوضح العكس. فمدراء هذه الشركات اللامعة يتعرفون
مبكراً على المخاطر الجديدة التي تواجهها شركاتهم ويحللون بدقة أثرها على أعمال
الشركة ويطلقون مبادرات للتعامل معها، لكنهم يفشلون بالرغم من ذلك.
المشكلة ليست في أن الشركات لا تقوم بأي
ردة فعل، لكن المشكلة في القيام بأفعال خاطئة، وتتراوح الأسباب بين عناد المدراء
إلى غياب الكفاءة، لكن السبب الرئيسي يكمن في ما أسميه " القصور الذاتي"
Active Inertia وهي خاصية فيزيائية تعني ميل الجسم للبقاء على حالته ومقاومة التغير
في حالته الحركية. وأقصد به هنا تمسك الشركات الناجحة باتباع نفس أنماط التفكير
وأساليب العمل التي جلبت لها النجاح في الماضي في مواجهة التحديات والتغييرات
الجذرية التي تواجهها في بيئة عملها وبدلاً من إخراج الشركة من الخسارة والسقوط
تجدهم يدفعونها بعمق أكثر لدائرة السقوط.
وسأشرح في هذه المقالة مصطلح القصور الذاتي
وأعراضه، لأن قادة الشركات إذا علموا أن عدوهم هو عدم الحركة فسيعلمون أن أفضل
طريقة لمواجهته هو الفعل، لكن اذا علموا أن عدوهم هو الفعل والحركة فهم بحاجة
لمراجعة افتراضاتهم ومعلوماتهم للحصول على رؤية أفضل لما ينبغي القيام به وعليهم
أن يطلعوا على العوائق التي تمنعهم من القيام بالفعل الصحيح حتى يقللوا من
احتمالية انضمامهم لقائمة القادة الخاسرين.
ضحايا ظاهرة القصور الذاتي
للتعرف أكثر على تأثير هذه الظاهرة على
الشركات، سنتطرق لحالتين دراسيتين لشركتين كانتا رائدتين في مجالهما لكنهما فشلتا
في التأقلم مع التغيير، ليس لعدم القيام بأي فعل لكن للقيام بأعمال لم تكن مناسبة.
الشركة الأولى هي شركة فايرستون Firestone وهي شركة إطارات أمريكية، كانت في
السبعينيات واحدة من أكبر شركات الإطارات الأمريكية وقد كان لدى قادة الشركة رؤية
واضحة لاستراتيجيتها وموقعها الاستراتيجي فقد حددت الشركة مصنعي السيارات خصوصا في
أمريكا كأهم عملاؤها، وحددت شركات الإطارات الأخرى كـ جوديير Goodyear كأهم منافسيها. وغدت
الشركة معلماً بارزاً للنجاح، حيث تبنت الشركة رؤية مؤسسها "هارفي فايرستون"
بالتركيز على جعل بيئة وعمليات الشركة تتمحور حول العملاء والموظفين وجعلهم كأفراد
من عائلة فايرستون حيث كانت الأندية المخصصة للشركة مفتوحة لكل الموظفين بمختلف
مراتبهم بل إن هارفي نفسه تمتع بعلاقات ممتازة مع رؤساء مصانع السيارات في أمريكا.
كانت فايرستون هي الشركة المسيطرة على
السوق الأمريكية وكانت فاعلة جداً في السوق الأوروبية، لكن كل شيء تغير تماماً حين
ظهرت شركة ميشلان Michelin الفرنسية واطلقت الإطار المزود بأنبوب مطاطي وسيطرت على
السوق الأوروبية، وفي عام 1972 أعلنت شركة فورد Fordأحد أكبر مصنعي السيارات الأمريكية أن
كل سياراتها الجديدة سيتم تزويدها باطارات من شركة ميشلان.
شركة فايرستون
لم تتفاجأ بهذه التقنيات بل كانت تراقب السوق عن كثب وأنشأت مصنعاً جديدا لنوع
الإطارات الجديد بقيمة 400 مليون دولار، لكن كل ما قامت به الشركة لم يكن فعالاً
لأنها لازالت تقوم به حسب طريقتها القديمة للنجاح والقصور الذاتي بدء عمله وتزايدت
المتاعب والصعوبات التي تواجه الشركة حتى استحوذت عليها شركة بريجستون Bridgestone اليابانية.
الشركة الأخرى
هي شركة الأزياء البريطانية لورا آشلي Laura
Ashley
والتي كانت أحد رموز الجمال والموضة في بريطانيا تلك الفترة وابتدأت من محل صغير
إلى سلسلة محلات كبيرة تتجاوز الخمسمائة مركز.
وكان تركيز
السلسلة على نشر الروح والثقافة
البريطانية وكانت لورا وزوجها برنارد يديران الشركة بعناية ومتابعة لكل العمليات
بدءً من التصميم والتصنيع إلى التوزيع والتخزين. واهتمت السلسلة بموظفيها وحفزتهم
برواتب ومكافئات مجزية، كما حظيت بولاء كبير من عملاؤها وشركاءها المختلفين.
وبعد وفاة لورا تولى زوجها زمام الأمور،
لكن الشركة واجهت مصاعب متعددة أولها دخول شركات من خارج بريطانيا للسوق، تغير
اهتمام العملاء لأنواع أخرى من الملابس، ظهور مصانع مختلفة بتكاليف أقل. وبالرغم
من ذلك حاولت الشركة واستعانت بمستشارين متعددين وغيرت خلال عقد واحد 10 رؤساء
تنفيذين، لكن مشكلة القصور الذاتي كانت لاتزال موجودة ولم تعد الشركة تعرف ماذا
تريد بالضبط هل هي مصنع أم موزع أم معرض.
العلامات الأربع لمشكلة القصور الذاتي
لمعرفة لماذا تفشل شركات ناجحة كـ فايرستون
وآشلي ينبغي علينا أولا أن نتعرف على مصدر نجاحها الرئيس، حيث يعود سبب نجاح أغلب
الشركات إلى معادلة أو خلطة أو وصفة تنافسية فتية هي مزيج فريد من الاستراتيجيات
والعمليات والعلاقات والقيم التي تجعلها تتميز عن بقية الشركات. وعندما تنجح
الخلطة يبدأ العملاء بالازدياد، و يتطلع الموظفون الموهوبون بالعمل لدى الشركة،
ويرغب المستثمرون بالاستثمار فيها، ويبدي المنافسون اعجابهم عن طريق تقليد ما تقوم
به الشركة. كل العوامل السابقة تجعل قادة ورؤساء الشركات يعتقدون أنهم وجدوا
الطريقة المثلى وتجعل جل اهتمامهم مركزاً على كيفية تحسين نظامهم الناجح. ولكن في
كثير من الأحيان يبدأ النظام بالتصلب لأن الخلطة التنافسية الفتية التي جلبت
النجاح للشركة تتحول إلى تمسك بإخلاص للوضع الراهن للشركة، وهكذا تتحول من وصفة
للنجاح إلى مصدر للفشل.
وقد لخصت هذه العملية بما أسميته
"ديناميكية الفشل" The Dynamic of Failure
بظهور أربع علامات- حسب الشكل المرفق- ، حيث تجعل هذه
الديناميكية الشركات تتمسك بطرق التفكير وآليات العمل القديمة التي جلبت لهم
النجاح المبدئي، وحين تتغير بيئة العمل تجلب لهم وصفات النجاح السابقة فشلاً
كبيراً،
ديناميكية الفشل The Dynamic of Failure
وذلك حسب التالي:
أطر استراتيجية بنظرة ضيقة Strategic frames become blinders
نقصد بالإطار الاستراتيجي نموذج العمل وطريقة التفكير التي تحدد كيف يرى
مدراء الشركة العالم من حولهم، حيث توفر هذه الأطر إجابات لأسئلة استراتيجية مثل:
ماهي بيئة عملنا؟ كيف نوجد القيمة؟ من هم منافسونا؟ من هم عملاؤنا المهمون؟ ما
المعلومات التي نستطيع تجاهلها؟ وهذه الأطر تلفت انتباه المدراء للنقاط المهمة
التي يتم التركيز عليها في سيل البيانات الخام التي تمر عليهم بشكل يومي في
مكاتبهم وعبر أجهزة الحاسب الخاصة بهم. فعلى سبيل المثال، كان الاطار الاستراتيجي
لـ فايرستون هو التركيز على المنافسين، وكان المدراء يتعرفون على الأنماط المختلفة
في البيانات المعقدة عن طريق نموذج قائم. أما في شركة لورا آشلي، فقد كانت الأطر
الاستراتيجية تسمح للمدراء بتقييم عمليات التوسع لمنتج معين بناء على توافقه مع
القيم البريطانية.
وفي حين أن هذه الأطر تحدد رؤية المدراء إلا أنها قد تعيق الرؤية عنهم،
فهذه الأطر تجعل المدراء يركزون باستمرار على أشياء محددة مما يجعلهم يعتقدون أنها
هي الأشياء المهمة فقط. وفي الواقع فإن هذه الأطر قد تعيق الرؤية المحيطية وتمنع
الناس من روية الخيارات المتعددة والفرص الجديدة. فعلى الرغم من معرفة شركة
فايرستون لأنشطة شركة ميشلان في السوق الأوروبية ورؤيتهم لهم يتوسعون ويسيطرون
عليها لم يتوقع قادة فايرستون أن تأثير هذه الشركة سيصل إلى السوق الأمريكية
وسيزيحهم عنها. وكلما كان الاطار الاستراتيجي متصلباً كلما حاول المدراء تحوير
المعلومات غير المتوقعة بناء على مخططاتهم الحالية أو ربما تجاهلوها تماماً. فعلى
سبيل المثال، تجاهل المدراء في شركة لورا آشلي التناقص المستمر في المبيعات
واعتبروها تقلبات مؤقتة بدلاً من اعتبارها مؤشراً لتغييرات في سوق الموضة
والأزياء.
إن تحول الأطر الاستراتيجية إلى أطر ضيقة ومحدودة هي القاعدة وليست
الاستثناء في أغلب الحالات الانسانية، ولنأخذ التطور الكارثي لاستراتيجية الجيش
الفرنسي خلال القرن المنصرم، حيث كان الجيش يتبنى المعتقد القائل بأن الهمة
العالية قادرة على تجاوز كل العقبات والمفاجآت لكن فشل استراتيجية الهجوم الشامل
والمصاعب التي تعرضوا لها خلال الحرب العالمية الأولى جعلهم يتبنون نظرية دفاعية
أكثر خلال الحرب العالمية الثانية مما كلفهم الكثير. وهكذا تحول الدرس الناجح لهم
إلى إطار استراتيجي ضيق.
الشركات
والمنظمات مثل الدول، تستمر بالقتال بنفس الطريقة التي ربحت بها الحرب الأخيرة.
فمثلا شركة زيروكس Xerox تغلبت على شركة IBM و كوداك وعندما ظهرت كانون Canon وغيرها من الشركات التي
وجهت أنشطتها للمنشآت المتوسطة والصغيرة، نقلت زيروكس نشاطها لليابان وخلدت
انتصارها في كتاب Xerox: American Samurai لكن هذه الحرب شتت الشركة عن نشاط جديد هو
الحواسيب الشخصية بالرغم من ريادتها ببعض التقنيات المتعلقة بها مثل الواجهات
الرسومية، وسبب فشلها هو أن هذه الفرص الجديدة تقع خارج إطارها الاستراتيجي الضيق.
عمليات تتحول لروتين Processes
harden into routines
عندما تقرر الشركة أداء عمل ما فإن الموظفون يجربون طرقاً مختلفة للقيام
بهذا العمل ، وعندما يجد الموظفون الطريقة المناسبة فإن لديهم دافعية كبيرة للتوقف
عندها وعدم البحث عن بدائل أخرى. وإيجاد طريقة مناسبة واحدة يوفر الوقت والجهد على
الموظفين ويمكنهم من أداء مهام أخرى ويزيد من انتاجيتهم، كما أنه يوفر القدرة
التنبئية اللازمة لإدارة المهام والأنشطة في منظومة معقدة.
لكن العمليات مثلها مثل الأطر الاستراتيجية لديها دورة حياة خاصة بها، فهي
تتوقف أن تكون وسيلة بحد ذاتها وتتحول إلى غاية. يتبع الناس العمليات القائمة ليس
لأنها الأفضل أو الأكثر فاعلية بل لأنهم يعرفونها وهي مريحة بالنسبة لهم. وعندما
تتحول العمليات إلى إجراءات روتينية فإنها تمنع الموظفين من التفكير بطرق أخرى
للقيام بالأعمال، مما يفعل ظاهرة القصور الذاتي.
وفي شركة فايرستون كان تحول العمليات إلى إجراءات روتينية أحد أهم أسباب
فشل التصدي بفعالية للتقنيات الجديدة في عالم الإطارات، حيث واجهت الشركة مشاكل في
الجودة والتصنيع لأنها حاولت تطويع عملياتها واجراءاتها الحالية لتتكيف مع
التقنيات الجديدة. كانت الشركة تنتج إطارات لا يريدها أحد لأن عملية الميزانية
والاستثمار كانت تتم في قدرات غير ضرورية، وكان يقود هذه العمليات مدراء الخطوط الأمامية
والذين كانوا وبشكل مفهوم لا يودون اغلاق الأماكن التي يعملون بها. وقد فشلت
الشركة أيضاً في توظيف أشخاص مؤهلين يحملون أفكاراً ورؤىً حديثة لأن عملية توظيف وترقية
المدراء التنفيذيين كانت تهتم بمبدأ الولاء وليس الأفضلية والاستحقاق. حتى والشركة
تواجه المصاعب، استمرت في مبدأ التوظيف والترقية المعتمد على " أشخاص
أمثالنا" people like us، حتى أنه في
عام 1972 كان كل المدراء التنفيذيين في الشركة قد أمضوا كل حياتهم الوظيفية في
الشركة، وثلثيهم قدو ولدوا ونشأوا في مدينة أكرون Akron، وثلثهم كان آباؤهم موظفون قياديون في
الشركة.
شركة ماكدونالدز McDonald’s
أيضاً مثال آخر للتأثير السيء للإجراءات الروتينية على مواجهة التغييرات في
الأسواق وبيئة الشركة، ففي التسعينيات كان لدى عملاق الأغذية السريعة كتيب
للتعليمات ذو 750 صفحة يحتوي على كل التفاصيل المتعلقة بإدارة المطعم. وطوال سنوات
ركزت الشركة جهودها على العمليات القياسية والموحدة والتي يتم إدارتها من المقر
الرئيسي للشركة، مما جعلها وصفة ناجحة وجلبت للشركة النجاح في أسواق مختلفة وضمنت
لها التناسق والفاعلية وجذبت لها العملاء وأبعدتها عن المنافسين.
لكن في نهاية التسعينيات واجهت
الشركة مصاعب متعددة، فالعملاء بدأوا يبحثون عن بدائل صحية وظهرت شركات منافسة مثل
برجر كنج وغيرها وبوصفات جديدة. وهكذا تحولت وصفة النجاح للشركة إلى مشكلة أسفر
عنها بطء من الشركة في التعامل مع المتغيرات الجديدة، لأن عملية الموافقة على
الوصفات الجديدة كانت تتطلب موافقة من المقر الرئيسي للشركة، وبالرغم من المحاولات
المستمرة لإيجاد وصفات جديدة إلا أن أغلبها باء بالفشل.
علاقات تصبح قيوداً Relationships become shackles
لكي تنجح الشركات فإن عليها أن تأسس
لعلاقات قوية مع الموظفين، العملاء، الموردين، المستثمرين وغيرهم. بالنسبة لشركة
لورا آشلي، فإنهم عملوا جاهدين لكسب ود عملاؤهم، وأصحاب علامات الامتياز
والمستثمرين في كل خطوة من خطوات توسع الشركة. وبالنسبة لـ فايرسيتون، فقد عمل
هارفي فايرستون على بناء علاقات متميزة مع عملاء الشركة، بل إنه كان يقرض موزعي الإطارات
من ماله الخاص أثناء فترات الركود، وسعى إلى بناء علاقات اجتماعية مع كبار موظفي
شركته. وهكذا كان مدراء الشركتين يعملون على رأب صدع العمليات التجارية ببناء
علاقات اجتماعية لدعم نسيج شركاتهم.
ومع تغير الأحداث تتحول هذه العلاقات إلى
قيود تمنع الشركات من المرونة اللازمة للتكيف مع الأحداث الجديدة وتؤدي إلى ظاهرة
القصور الذاتي. فالحاجة إلى الحفاظ على علاقات متميزة مع العملاء الحاليين قد تعيق
الشركات من استحداث منتجات جديدة أو من الدخول إلى أسواق جديدة. فمثلاً شركة كيرين
Kirin كانت تسيطر على 60% من حصة مشروبات البيرة في
السوق اليابانية، وخلال الثمانينات ترددت الشركة في تنفير زبائنها الأساسيين –
كبار السن- من خلال تقديم مشروبات مناسبة للعملاء الجدد الأصغر سناً، وقامت شركة أساهي
Asahi باقتناص الفرصة وأصبحت هي الشركة الرائدة في
ذلك المجال.
ويمكن أن يجد المدراء أنفسهم مقيدين
بعلاقاتهم مع الموظفين، كما توضح قصة شركة أبل Apple. حيث جذبت رؤية الشركة للحاسبات الأنيقة تقنياً والثقافة التجارية
الحرة مجموعة من ألمع المهندسين بالعالم، مما نتج عنه سلسلة من المنتجات الرائعة
مثل ماكنتوش Macintosh وبوربوك PowerBook. ومع ازدياد منتجي الحاسبات، عرفت الشركة أن استمرارها يكمن في
قدرتها على خفض التكاليف وتسريع عملية الإنتاج، لكن الانضباط الصارم يتنافى مع ثقافة
الشركة، وهكذا وجدت الإدارة العليا نفسها محبطة عندما حاولت فرض المزيد من
الانضباط لأن المهندسين رفضوا تغيير طريقة عملهم، وتحولت العلاقة المتميزة مع
الموظفين التي أدت إلى النجاح المبكر للشركة إلى عائق للاستجابة إلى التغييرات في
بيئة عمل الشركة.
العلاقات مع الموزعين قد تتحول أيضاً إلى
قيود، فقد تفوقت شركة دل Dell للحاسبات على منافسيها من
خلال البيع المباشر إلى العملاء دون الحاجة لموزعين، وتخوفت شركات أخرى مثل هيوليت باكارد Hewlett-Packard من القيام بخطوة مشابهة خشية ردة فعل سلبية
من الموزعين الذين يشكلون الغالبية العظمى من مبيعاتها. شركات الطيران مثل لوفتهانزا، الخطوط
الجوية البريطانية تواجه مشكلة مشابهة، حيث كانت بطيئة في توفير شراء التذاكر عبر
الانترنت وذلك خشية من مكاتب السفر التي تقوم بأغلبية الحجوزات.
قيم تتحول لعقائد اجبارية Values harden into dogmas
قيم الشركة هي مجموعة من المعتقدات العميقة
التي توحد وتلهم موظفيها، حيث تحدد القيم كيف يرى الموظفون أنفسهم والشركات التي
يعملون بها. على سبيل المثال، قيمة "رجل فايرستون" كانت تحفز على الولاء
للشركة والالتزام المتين بخدمة المجتمع. كما توفر القيم قوة الجاذبية اللازمة
لتجميع عمليات الشركة خصوصاً البعيدة، فحتى أصحاب علامات الامتياز لشركة لورا آشلي
كانوا ملتزمين بالقيم التقليدية للشركة، مما جعل من علامة الشركة علامة تجارية قوية
في جميع أنحاء العالم.
ومع توسع الشركات ونموها تتحول هذه القيم
إلى قواعد وأنظمة صارمة تستمد شرعيتها من وجودها في السابق، وهكذا تتحول القيم
التي تعيش لمرة إلى واحدة إلى عقائد متحجرة، وعندما يحدث ذلك فإن القيم لن تعود
مصدراً للإلهام بل تتحول قوة توحدها إلى ميل للرجعية والتخلف في مواجهة المخاطر. والنتيجة
الحتمية هي مزيد من القصور الذاتي.
ويوضح الخفوت المطرد لشركة بولارويد Polaroid كيف يمكن للقيم المفعمة بالحياة أن تتحجر، فقد حازت الشركة التي
تأسست على يد المخترع إدوين لاند على مكانة مرموقة بفضل سلسلة من التقنيات الرائدة
كالتصوير الفوتوغرافي الفوري، وكان مصدر الفخر للشركة هو ريادتها في مجال البحث
والتطوير. لكن مع مرور الوقت، تحول هذا الاهتمام بالبحث والتطوير إلى ازدراء
للأنشطة التجارية الأخرى، واعتبر التسويق والتمويل غير مهمين طالما تملك الشركة
هذه التقنيات المتطورة. وهذا الاهتمام بقيمة التطور التقني، أدى إلى استثمار مبالغ
به في مجال البحث والتطوير دون مراعاةٍ لاستجابة العملاء. لذا من غير المستغرب أن
تركد المبيعات في الوقت الحالي وألا تصل قيمة الشركة إلى ثلث المبلغ المدفوع لها
كمحاولة استحواذ سابقة.
رويال دوتش / شل
هي مثال لشركة أخرى أصبحت قيمها عائقا لها، خلال ثلاثينيات القرن العشرين، سيطر
هنري ديتردينغ -الذي كان قائدا قويا و متعاطفا نازيا- على شل،. وقد أجبر المديرون
التنفيذيون الآخرون شل في النهاية على استبعاد هنري والتخلص من نفوذ السيطرة
المركزية، وأثرت هذه الأزمة على الشركة وأدت لظهور قيمة اللامركزية وأدت إلى إيجاد
مدراء مستقلين لكل دولة. وقد مكنت قيمة اللامركزية شركة شل من ايجاد فرص نمو في
جميع أنحاء العالم. ولكن مع تراجع أسعار النفط خلال التسعينيات، منعت قيمة السلطة
اللامركزية الشركة من ترشيد عملياتها وخفض تكاليفها بسرعة.
تجديد ليس ثورة
النجاح يولد
القصور الذاتي والقصور الذاتي يولد الفشل. ولكن هل الفشل نتيجة حتمية للنجاح؟
الجواب: لا على الأقل في الأعمال التجارية. ففي حين تعثرت فايرستون، استطاعت
منافستها جوديير من الانتقال السلس إلى التقنيات الجديدة في عالم الإطارات وأصبحت
إحدى الشركات العظمى في هذه الصناعة. وفي حين واصلت لورا آشلي تعثرها المستمر، قومت
شركة غوتشي Gucci
نفسها بعد عثرة بسيطة. ويكشف التاريخ اختلافاً في مصائر شركات من نفس المجال
وواجهت تغييراً في بيئة علمها، فكر في جنرال موتورز و ويستنجهاوس أو في فولكس ويجن
و رينو وغيرها.
يمكن للشركات الناجحة أن تتجنب أو تخفف من
حدة القصور الذاتي. أولا بمعرفة أن العدو الأسوأ لهم ليس عدم القيام بشيء بل إن
ردة الفعل الخاطئة تكلفهم الكثير وقد تجعل الأمور أسوأ. وبدلاً من التعجل بإجابة
سؤال " ما الذي ينبغي عمله؟" يفترض أن يسأل قادة الشركة أنفسهم "ما
الذي يعيقنا؟" حيث يركز هذا السؤال على الأشياء الصحيحة: الأطر الاستراتيجية،
العمليات، العلاقات والقيم التي يمكن أن تفسد ردة الفعل وتجعلها تسلك المسار
الخاطئ.
معظم الشركات التي تعاني لديها شعور صحيح
بما ينبغي القيام به، حيث أن لديهم مجموعة كبيرة من التقارير من مستشارين ومحللين
من داخل وخارج الشركة. فقد كان قادة فايرستون يعلمون بتفوق التقنيات الجديدة
للاطارات وكذلك كان قادة لورا آشلي يعلمون بأن هناك المزيد من النساء ممن ينضممن
للقوى العاملة. كانت مشكلتهم عدم إدراكهم أن وصفة النجاح القديمة لهم ستعيق ردة
فعلهم تجاه المتغيرات الجديدة.
وحتى بعد أن تفهم الشركات العوائق التي
تواجهها، يجب عليها أن تقاوم الدوافع وراء هذه العوائق لكي تمضي قُدماً. وينصح بعض
خبراء الأعمال مديري هذه الشركات على تغيير شامل في كل جزء من أجزاء عمل الشركة
وإحداث ثورة داخل الشركة، لأنه يجب أن ترمى وصفات النجاح القديمة أدراج الرياح
وكلما كان ذلك عاجلاً كلما كان ذلك أفضل. ولكن قدامى المحاربين في برامج التغيير
الذين تحدثت معهم ضد هذه الفكرة، ويقولون بأن هذه الطريقة – أي محاولة تغيير كل
شيء في وقت واحد- سيؤدي إلى تدمير الكفاءات التي تم بناءها، وينقض نسيج العلاقات
الاجتماعية التي تم بناءها على مدار السنوات، ويشوش على العملاء والموظفين. الثورة
توفر صدمة للنظام لكنها قاتلة أحياناً.
وانظروا لما حدث عندما أقرت شركة فايرستون
بالعقبات التي تواجهها وتعيق نجاحها، وجلبت رئيساً تنفيذياً جديداً معروف ببراعته
في قيادة عمليات التحول. ولم يضع الرئيس الجديد الوقت فأغلق 5 مصانع من أصل 14 مصنعاً وقطع العلاقات المتينة
مع عديد العملاء وأبدل عملية وضع الميزانية لتتبع نظام صارماً من الأعلى إلى
الأسفل بدلاً من النظام القديم من الأسفل إلى الأعلى. كما شغل طاقم ووظائف الإدارة
العليا بمجموعة من الموظفين من خارج الشركة. وقد حفظت ثورة الرئيس التنفيذي الشركة
من الإفلاس لكنها تركت الشركة في وضع ضعيف خصوصاً على مستوى النمو المستقبلي. وقد أوقف
فريق المدراء الخارجيين العديد من الاستثمارات الواعدة للشركة واستثمروا في تجارة
توزيع الإطارات على الرغم من تحذير بعض المخضرمين من أن هذه التجارة لم تكن مربحة
يوماً للشركة. وبالتالي فإن أيام فايرستون كشركة مستقلة أصبحت معدودة.
وعلى النقيض من فايرستون سلكت شركة جوديير مسلكاً
مختلفاً، حيث احترمت إرثها الكبير ولكن لم تدعه يعيق تقدمها وتكيفت مع البيئة
التنافسية الجديدة من خلال سلسلة من التغييرات المدروسة بعناية لتجنب الحاجة
للثورة. فقد
خفضت الشركة قدراتها الإنتاجية للإطارات التقليدية بطريقة أظهرت احترامها لالتزاماتها
الطويلة الأمد سواءً للموظفين أم للمجتمعات المحلية، حيث قامت بتحوير المصانع
القائمة لتناسب مع التقنيات الجديدة للإطارات وعندما اضطرها الأمر قامت بإنشاء
مصانع قريبة من المصانع التي تم إغلاقها مما أدى لاحتفاظها بمعظم العاملين بتلك
المصانع وبالتالي تخفيف الأثر المجتمعي السلبي. وفي حين أن فايرستون خفضت بشكل كبير
جدا مستوى خدمة العملاء، واصلت جوديير الاستثمار في علاقاتها مع العملاء، مما وضع
أساساً للنمو في المستقبل.
و في عام 1993
كانت شركة آي بي إم IBM
معرضة لحدوث ثورة مشابهة. وعندما خلف لو جيرستنرو الرئيس التنفيذي نابيسكو وجد تركة
ثقيلة، فقد فقدت الشركة أكثر من 16 مليار دولار خلال ثلاث سنوات، وتم اعتبارها
ديناصور في قائمة فورتشن، وكانت هناك خطط لتفكيكها لـ 13 قطاعاً وبيعها. وأحيا جيرستنر ثقافة آي بي إم المدفونة
وخفض التكاليف، وحافظ ورعى العديد من نقاط القوة التقليدية للشركة. وبدلا من نمط القرد
الطليق المتبع في شركات وادي السيليكون، أكد جيرستنر سمعة الشركة وقدرتها على الاستقرار
والمسؤولية. وطمأن العملاء من الشركات أن بإمكانهم الاعتماد على "بيج
بلو" لمساعدتهم على الانتقال إلى عالم الشبكات. وبدلا من التخلي عن الحواسيب
المركزية لشركة آي بي إم، قام جيرستنر بتوسيع الخدمات واستحوذت الشركة على برمجيات
أكملت عقد برامجها وأجهزتها، مما مكن الشركة من تقديم "حلول متكاملة"
لاحتياجات العملاء من تقنية المعلومات. وقد نجحت استراتيجية جيرستنر لتحويل شركة
آي بي إم من خلال التجديد لا الثورة بشكل لا يكاد يصدقه أحد، مما أدى إلى زيادة سعر
سهم الشركة بأكثر من أربعة أضعافه وتركها قادرة على الاستمرار كرائدة في هذه
الصناعة في القرن المقبل.
وهذا التحول
الناجح لشركة آي بي إم يقدم درساً للشركات الناجحة التي تواجه تحديات أو تغييرات
كبيرة في بيئة عملها. ظاهرة القصور الذاتي موجودة ونشطة لأن قدرة الماضي على السحب
كبيرة جداً، ومحاولة كسر ذلك من خلال ثورة تنظيمية جذرية يترك الموظفين مشوشين
ومنقطعين من ماضيهم، وغير مستعدين للدخول إلى المستقبل. لذا فعلى المدراء احترام
إرث وتراث الشركات دائماً، وأن يبنوا على أسس الماضي مع التوضيح لموظفيهم بأن
الأطر الاستراتيجية ، والعمليات والعلاقات والقيم القديمة كلها تحتاج لإعادة صياغة
وتأهيل لمواجهة التحديات الجديدة.
ترجمة" بتصرف" لمقالة Why Good Companies Go Bad وتجدونها على الرابط: